]تاريخ ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية
ترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية فيها من الحذف والإضافة
والتصرف بحرية ما جعل هذه الترجمة لا تشتمل على أي تشابه مع الأصل.
جذب القرآن الكريم بطريقته المثلى في عرض عقيدته وشريعته، وبأسلوبه المتفرد في صياغة أفكاره ومبادئه، اهتمام كثير من الأوروبيين وبخاصة القساوسة والرهبان، فدعوا إلى ترجمته أولاً قبل دراسته ومنافحته بعد ذلك، والذي يفسر لنا ذلك كله، أن أول من دعا إلى ترجمة القرآن الكريم هو الراهب 'بيتر المحترم' رئيس دير 'كولني' في فرنسا سنة 1143م، وأن اللذين قاما بهذه الترجمة هما الراهبان 'روبرت' و'هرمان'.
يقول 'محمد صالح البنداق': 'أول ترجمة للقرآن الكريم باللغات الأوروبية كانت باللاتينية، وقد تمت بإيعاز وإشراف رئيس دير 'كلوني' في جنوب فرنسا الراهب 'بطرس المبجل'، وهذا اسمه وكان ذلك سنة 1143م، وعلى يد راهب إنجليزي يدعى 'روبرت الرتيني' وراهب ألماني يدعى 'هرمان'.
جاء في خطاب 'بيتر المحترم' إلى القديس 'برنار'، ما يلي: 'قابلت روبرت وصديقه هرمان الدلماطي العام 1141م، بالقرب من 'الأبر' في إسبانيا وقد صرفتهما عن علم الفلك إلى ترجمة القرآن باللاتينية، فأتماها سنة 1143م، وكانت أول ترجمة للقرآن استعانا فيها باثنين من العرب'.
والمثير للاستغراب، أن الدوائر الكنسية منعت طبع هذه الترجمة وإخراجها إلى الوجود، لأن إخراجها من شأنه أن يساعد على انتشار الإسلام بدلاً من أن يخدم الهدف الذي سعت إليه الكنيسة أصلاً وهو محاربة الإسلام، يقول G.H Bousquet: 'منذ سنة 1141م، اجتمع رجال الدين بإيعاز من 'بيتر المحترم' رئيس 'دير كلوني' لترجمة القرآن إلى اللاتينية، قصد محاربة الإسلام'.
وظلت هذه الترجمة مخطوطة في نسخ عدة، تتداول في الأديرة مدة أربعة قرون فقط إلى أن قام 'ثيودور بيبلياندر' بطبعها في مدينة 'بال' في سويسرا في 11 يناير سنة 1543م، وسميت هذه الترجمة ترجمة 'بيبلياندر' وتميزت بمقدمة لـ'مارتن لوثر' و'فيليب ميلانختون'، تحدث عنها 'جورج سال' قائلاً: 'إن ما نشره 'بيبلياندر' في اللاتينية زاعمًا بأنها ترجمة للقرآن الكريم لا تستحق اسم ترجمة، فالأخطاء اللانهائية والحذف والإضافة والتصرف بحرية شديدة في مواضع عدة يصعب حصرها يجعل هذه الترجمة لا تشتمل على أي تشابه مع الأصل'.
وهذه شهادة أخرى على فساد هذه الترجمة ننقلها عن أحد المستشرقين البارزين في مجال الدراسات القرآنية، هو المستشرق الفرنسي 'بلاشير'، الذي يقول: 'لا تبدو الترجمة الطليطلية للقرآن بوجه من الوجوه ترجمة أمينة وكاملة للنص'.
ومع ذلك، شكلت هذه الترجمة النواة الأولى لباقي الترجمات الأوروبية الأخرى للقرآن الكريم. بل مارست عليها تأثيرًا قويًا إلى درجة الاقتباس منها والسير على منهجها.
ثم توالت الترجمات القرآنية إلى اللغات الأوروبية بعد ذلك في الظهور:
حيث ظهرت أول ترجمة للقرآن الكريم باللغة الفرنسية سنة 1647م، على يد 'أندري دي ريور' وقد كان لهذه الترجمة صدى كبيرًا لفترة طويلة من الزمن، حيث أعيد طبعها مرات عدة وترجمت إلى مختلف اللغات الأوروبية، يقول J.D Pearson: 'إن الترجمة الفرنسية القديمة جدًا، هي ترجمة 'أندري دي ريور'، طبعت كثيرًا بين الأعوام 1647م،و 1775م، وكانت كلها تحتوي على مختصر لديانة الأتراك وبعض المستندات، وقد نتج من هذا العمل أول ترجمة للقرآن إلى الإنجليزية بوساطة 'ألكسندر روس' وكانت أيضًا للأب Le Pere ترجمات أخرى إلى الهولندية بوساطة 'جلازماخر' وإلى الألمانية بوساطة 'لانج'، وإلى الروسية بوساطة 'بستنكوف' و'فريفكين'.
وفي القرن السابع عشر، عملت ترجمة من العربية مباشرة إلى اللاتينية للإيطالي 'مركي' سنة 1698م، وتعتبر هذه الترجمة عمدة كثير من الترجمات الحالية، في كتاب lslamologie وكانت كما يلي: 'في العام 1698نشر 'لودفيك مركي'. بعد أكثر من أربعين سنة من دراسته للقرآن، ولمختلف المفسرين المسلمين ـ النص العربي للقرآن مصحوبًا بترجمة لاتينية وجيزة جدًا وبنقط وردود، وقد كان هذا المؤلف مصدرًا لكثير من المترجمين الحاليين الذين أخذوا منه أهم المواد'.
واعتبر 'هنري لامنز' هذه الترجمة أكثر الترجمات إنصافًا للقرآن الكريم، ومرجع كثير من المترجمين الأوروبيين، غير أنهم لا يشيرون إليها في معظم الأحيان، والنتيجة كما يقول 'لا مينز': 'إننا لا نملك ترجمة وحيدة للقرآن لا عيب فيها وأكثرها إنصافًا هي الترجمة اللاتينية القديمة لـ'مركي' '1691 ـ1698م' والتي تستند إليها جميع التراجم اللاحقة، من غير اعتراف في أكثر الأحيان'.
وفي القرن الثامن عشر، ظهرت ترجمات أنجزت أيضًا على أصل عربي، حيث نشر الإنجليزي 'جورج سال'، ترجمة مباشرة من العربية إلى الإنجليزية سنة 1734م زعم في مقدمتها أن القرآن إنما هو من اختراع 'محمد' ومن تأليفه وأن ذلك أمر لا يقبل الجدل، ونشر الفرنسي 'سافاري' ترجمة مباشرة إلى الفرنسية سنة 1751م 'حظيت بشرف نشرها في مكة سنة 1165هـ'، وإن كان 'إدوارد مونتيه' E.montet يقول: 'إنه رغم أن ترجمة 'سافاري' طبعت مرات عدة، وأنيقة جدًا، لكن دقتها نسبية'.
وفي سنة 1840م ظهرت إلى الوجود ترجمة 'كزيمرسكي'، التي تعتبر ـ مقارنة مع ترجمة 'سافاري' أكثر عراقة واستعمالاً. رغم عوزها بعض الأمانة العلمية وفهم البلاغة العربية يقول 'مونتيه' عن هذه الترجمة: 'لا يسعنا إلا الثناء عليها، فهي منتشرة كثيرًا في الدول الناطقة بالفرنسية'.
وفي سنة 1925م ظهرت ترجمة 'إدوارد مونتيه' التي امتازت بالضبط والدقة، والتي تحدث عنها الأستاذ 'محمد فؤاد عبد الباقي' بما نصه 'كنت طالعت في مجلة المنار مقالاً للأمير 'شكيب أرسلان' عن ترجمة فرنسية حديثة للقرآن الكريم وضعها الأستاذ: 'إدوارد مونتيه' ـ وقد قال عنها: إنها أدق الترجمات التي ظهرت حتى الآن وقد نقل عنها إلى العربية مقدمة هذه الترجمة، وهي في تاريخ القرآن وتاريخ سيدنا رسول الله، وقد نشرت في المنار، فاقتنيت هذه الترجمة فوجدتها قد أوفت على الغاية في الدقة والعناية وقد ذيلها المترجم بفهرس لمواد القرآن المفصل أتم تفصيل.
وفي العام 1949م، ظهرت ترجمة 'بلاشير'، التي توجد السور فيها مرتبة حسب التسلسل التاريخي، يقول الدكتور 'صبحي الصالح' يرحمه الله: 'تظل ترجمة 'بلاشير' للقرآن في نظرنا أدق الترجمات، للروح العلمية التي تسودها لا يغض من قيمتها إلا الترتيب الزمني للسور القرآنية.
وأهم ما يميز هذه الترجمة استعمال 'بلاشير' أساليب مطبعية مناسبة، وإرفاق نص الترجمة ببعض التعاليق والبيانات، وكثيرًا ما يورد للآية الواحدة ترجمتين يبين في إحداهن المعنى الرمزي، وفي الثانية المعنى الإيحائي، وغالبًا ما يميل إلى المعنى الإيحائي، وهذا ما جعلها أكثر الترجمات الفرنسية انتشارًا وطلبًا، جاء في كتاب lslamologie: إن المطلوب 'من مجموع هذه الترجمات، ما هو لـ'بيل' الإنجليزي، ولـ'بلاشير' الفرنسي ولـ'بوسني' الإيطالي'.
ويبدو أن لـ'جاك بيرك' رأيًا مخالفًا حول هذه الترجمة، إذ يقول: 'ترجمة 'بلاشير' لها مزاياها، فهو رجل من أفضل المستشرقين الأوربيين إطلاعًا وضلاعة في قواعد اللغة العربية وآدابها، ولكن من نواقصه أنه كان علمانيًا. أي أنه لم يكن قادرًا على تذوق المضمون الروحي للقرآن وأبعاده الصوفية، ولا شك أن 'بلاشير' هو أستاذ عظيم فذ، فقد كان أستاذًا لي وصديقًا كبيرًا، ولكننا لو تكلمنا كعلماء بعيدًا عن العلاقات الخاصة، فإنني أقول: 'إن ترجمته للقرآن ـ على الرغم من مزاياها ـ فإن لها نواقصها، ولكنها تبقى من أفضل الترجمات الفرنسية للقرآن'.
ومع مرور الوقت ـ كما يقول Bousquet ـ لم تلق الترجمات الجديدة للقرآن الكريم في فرنسا الاهتمام بنفسه. رغم ظهور ترجمات كثيرة غمرت السوق الفرنسية في السنوات الأخيرة. إلى أن صدرت في العالم 1990م ترجمة 'جاك بيرك' التي استغرق في إنجازها ثمان سنوات من العمل المتواصل، استعان فيها بعشرة تفاسير أولها تفسير 'الطبري'، وتفسير 'الزمخشري' من التفاسير القديمة، وتفسير 'محمد جمال الدين القاسمي' من التفاسير الحديثة، وأهم ما ميز هذه الترجمة تلك المقدمة التي خصها 'بيرك' لتحليل النص القرآني ومميزاته ومضامينه والخصوصيات التي يتمتع بها، لكن بالرغم مما أحدثته هذه الترجمة من ضجة كبيرة في الأوساط الفرنسية، واعتبرت حينها حدثًا ثقافيًا بارزًا، فإن صاحبها يرى أن عمله الترجمي لن يصل إلى مرحلة الكمال، وإنما سيكون موجهًا إلى المسلمين الذين لا يحسنون اللغة العربية، ويحسنون اللغة الفرنسية.
وبالرجوع إلى تاريخ الترجمات الفرنسية للقرآن الكريم، يتضح لنا أنها مرت بثلاث مراحل رئيسة هي:
1ـ مرحلة الترجمة من اللاتينية إلى اللغة الفرنسية.
2ـ مرحلة الترجمة من اللغة العربية مباشرة إلى اللغة الفرنسية، وهذا مسلك نهجه كثير من المستشرقين الفرنسيين في ترجماتهم للقرآن في القرن العشرين أمثال 'بلاشير' و'بيرك'.
3ـ مرحلة دخول المسلمين ميدان الترجمة إلى اللغة الفرنسية، مثل ترجمة الجزائريين 'لايمش' و'ابن داود'، والتي كانت ـ كما يقول BousQuet ـ بأسلوب بليغ وعجيب. وترجمة 'أحمد يتحاني' العام 1936م، وترجمة 'حميد الله' سنة 1959م، وترجمة الدكتور 'صبحي الصالح' يرحمه الله سنة 1979م.
وفي سنة 1966م، ظهرت ترجمة المستشرق الألماني 'رودي بارت'، وتعتبر أحسن ترجمة للقرآن الكريم باللغة الألمانية، بل باللغات الأوروبية عمومًا، وقد حرص صاحبها على أن يكون عمله علميًا وأقرب ما يكون من الدقة والأمانة في نقل المعاني القرآني من العربية إلى الألمانية حتى إنه حينما تعترضه كلمة يشكل عليها فهمها على الوجه المقصود، أو لا يطمئن إلى قدرته على تحديد معناها باللغة الألمانية، فإنه يثبتها بنصها العربي كما وردت في الآية الكريمة، ولكن بالحروف اللاتينية ليفسح المجال أمام القارئ لأن يتوصل بنفسه إلى إعطائها المعنى الذي يراه ملائمًا لسياق الكلام دون أن يفرض عليه وجهة نظره الشخصية..